أمن الخليج بلا وصاية.. المملكة المتحدة وأوروبا شركاء لا أوصياء
هل يمكن تعزيز أمن الخليج دون إعادة إنتاج التبعية للقوى الخارجية؟ يشير الحضور البحري المتنامي للمملكة المتحدة وحلفائها الأوروبيين في الخليج إلى إجابة واعدة: نعم، ولكن فقط من خلال شراكات تمكّن دول الخليج بدلًا من أن تفرض السيطرة عليها.
في ظل تصاعد التهديدات في البحر الأحمر، ومضيق هرمز وخليج عدن، من الهجمات الحوثية بالطائرات المسيّرة إلى الهجمات السيبرانية على البنية التحتية البحرية، تسعى دول مجلس التعاون الخليجي إلى حلفاء يحترمون سيادتها، ويدعمون قدرتها على اتخاذ قرارات إستراتيجية مستقلة. ويبرز في هذا السياق النموذج البريطاني القائم على مفهوم “الأمن بلا وصاية” كبديل موثوق للنماذج الأحادية القائمة على فرض النفوذ.
لم يعد الوجود البريطاني والأوروبي في الخليج رمزيًّا، فمهمة حاملة الطائرات البريطانية HMS Prince of Wales، التي تمتد إلى ثمانية أشهر، إلى جانب وجود الحاملتين الفرنسية شارل ديغول، والإيطالية كافور، تمثل تحولًا نحو تعاون عملياتي مباشر. وقد زُوِّدَت هذه الحاملات بمقاتلات “F-35B” التي تعتمد نظام الاتصال المتعدد الوظائف (MADL)؛ ما يتيح تبادلًا مشفرًا وفوريًّا للبيانات القتالية بين الوحدات الجوية والبحرية والبرية. يمكن أن يشكل هذا نموذجًا لدول الخليج يُعزّز سرعة الاستجابة للمهام، ويُمهّد لتكامل تشغيلي فعّال، ليس فقط مع أوروبا؛ بل أيضًا داخل شبكات القيادة الخليجية الناشئة.
خلال تمرين “درع الخليج المشترك 3” عام 2023، نفذت وحدات من البحرية الملكية البريطانية عمليات مشتركة مع القوات السعودية والإماراتية والبحرينية والعُمانية في محاكاة واقعية لتهديدات بحرية، وأكد مسؤولون بريطانيون أن الضباط الخليجيين تولوا أدوارًا قيادية محورية خلال التمرين؛ ما يعكس نموذجًا قائمًا على الثقة وتقاسم الأعباء. ووفقًا للقيادة البحرية الإماراتية، أسفرت التمارين المشتركة عن تحسّن بنسبة 22% في مؤشرات التنسيق العملياتي؛ مما أدى إلى إعادة هيكلة العقيدة البحرية الخليجية، وتحديث بروتوكولات الاستجابة للتهديدات.
ولا تقف هذه الشراكة عند حدود التمارين؛ بل تسهم في بناء منظومات إستراتيجية تتمحور حول الخليج، ففي سلطنة عُمان، لا يُنظر إلى الوجود البريطاني في قاعدة الدقم بوصفه تموضعًا دائمًا؛ بل بوصفه شكلًا من أشكال التعايش المشترك، يوفر دعمًا لوجستيًّا قابلًا للتوسع، وإعادة تزويد بالوقود، وتنفيذ عمليات مشتركة. ومنذ عام 2021، أصبحت الدقم مركزًا متقدمًا لتكامل وحدات البحرية وسلاح الجو الملكي البريطاني، ومنصةً لبرامج تبادل الضباط الخليجيين. كما يُكمل هذا التكامل الميداني مبادرات رقمية، مثل إتاحة الوصول المشترك إلى منصات استخبارات التهديدات السيبرانية البريطانية المصممة للبنية البحرية الخليجية.
وبالمثل، أدى التعاون بين شركة BAE Systems والصناعات العسكرية السعودية إلى تسريع توطين المكونات البحرية؛ مما يدعم أهداف رؤية السعودية 2030 الدفاعية. وعلى المستوى الإستراتيجي، يتجاوز هذا التعاون حدود سلاسل التوريد ليكرّس مفهوم الاعتماد الذاتي، فالدول الخليجية باتت تنظر إلى هذه الشراكات بوصفها أدوات لتسريع بناء القدرات المحلية، خاصةً في مجالات الدفاع الصاروخي، والأنظمة غير المأهولة، وتكامل الأقمار الصناعية.
وعلى عكس نماذج الضمان الأمني التقليدية، يركّز الشركاء الأوروبيون -وعلى رأسهم المملكة المتحدة- على بناء القدرات المشتركة، فبرامج التعاون الحالية تشمل دمج طلاب عسكريين خليجيين في الأكاديمية العسكرية الملكية “ساندهيرست”، إضافة إلى تطوير عقائد استجابة ميدانية تتناسب مع بيئة الخليج البحرية الفريدة. ومثال على ذلك، أتاح برنامج تبادل المعرفة الدفاعية الخليجي 2022- 2024 لأكثر من 60 ضابطًا خليجيًّا المشاركة في تخطيط سيناريوهات إستراتيجية ضمن ألعاب محاكاة عسكرية وفق معايير الناتو، فيما يُعد مرحلة جديدة من التعاون التكاملي. أسهم هذا الانتقال المعرفي في تعزيز استقلال القرار العسكري الخليجي، ما قلل الاعتماد على طرف دولي وحيد. كما بات المخططون الخليجيون يتولون قيادة خلايا المحاكاة، ويقترحون إستراتيجيات ردع هجينة تستند إلى الجغرافيا المحلية والمرونة المجتمعية، والإشارات الإقليمية. وبهذا، لم يعد الضابط الخليجي مجرّد متلقٍ للعقيدة الغربية؛ بل صار مساهمًا فاعلًا في صياغة نظرية أمنية إقليمية متطورة.
وعلى عكس النماذج الأحادية في الانخراط الأمني، تطرح الثلاثية البريطانية- الفرنسية- الإيطالية تصورًا لتحالف مرن قائم على التنسيق والتكامل. وتُعد مهمة Sentinel للمراقبة البحرية -التي أُطلقت ردًا على التوترات في مضيق هرمز- نموذجًا حيًّا لهذا التوجه، إذ لم تهدف المهمة إلى السيطرة على الوضع؛ بل مكّنت الأساطيل الخليجية من حماية ممراتها الحيوية، فيما أدّت المنصات الأوروبية دورًا معززًا للقدرات، لا دور الوصي. وتشير مقابلات مع قادة بحريين خليجيين إلى أن Sentinel ساعدت على فك الاشتباك الإشاري، وتقليل انقطاعات الرادار في مناطق العبور الرئيسة.
ولا تقتصر أهمية نشر مقاتلات “F-35” على قدراتها التخفيّة والهجومية، بل تكمن أيضًا في تعزيز التشغيل البيني الرقمي الذي يتفق مع أهداف دول الخليج في بناء شبكات دفاع جوي إقليمي متكاملة. ومع توسع قطر والإمارات والسعودية في اقتناء هذه الطائرات، فإن القدرة على التشغيل إلى جانب أنظمة الناتو تضمن جاهزية ردعية للمستقبل. كما تسمح قدراتها في دمج البيانات اللحظية بتنسيق مباشر مع أنظمة القيادة في الفرقاطات الخليجية، ومنصات الاعتراض الأرضية، مما يخلق بنية دفاعية طبقية ذات كفاءة عالية.
وأهم من ذلك، أن دول الخليج لا تستبدل تبعية بأخرى، بل تتبنى نهج تنويع الشراكات بوصفه أداة إستراتيجية لتعزيز نفوذها الذاتي. ويُجسد الدور البريطاني في عقد التمارين البحرية، وتبادل التكنولوجيا، وبروتوكولات مشاركة المعلومات الاستخباراتية، نموذجًا تعاونيًّا يُمكن لدول الخليج الاحتذاء به. وهذا التنوع لا يُوازن تأثير القوى الأجنبية فقط؛ بل يعزز أيضًا قيادة الخليج لفكره الإستراتيجي.
في بيئة أمنية تتسم بتعدد الأقطاب، لا تهدف المشاركة الأوروبية بقيادة المملكة المتحدة إلى الهيمنة على الخليج؛ بل إلى تحقيق الاستقرار من خلال تبادل الخبرات، وهياكل القوة المرنة، واحترام القرار الإقليمي، فالهدف ليس الحضور من أجل الحضور؛ بل صياغة منظومة أمنية مرنة تقودها دول الخليج نفسها، وقد بدأ هذا الإطار ينعكس بالفعل على إصلاحات مؤسساتية في بنية القيادة الخليجية المشتركة، وتنسيق سلاسل الإمداد عبر الحدود.
هذا ليس مجرد مخطط لأمن بحري؛ بل خريطة طريق نحو السيادة البحرية. ورسالة المملكة المتحدة واضحة: مستقبل أمن الخليج لا يكمن في الوصاية؛ بل في الشراكة.
نقلًا عن مركز الدراسات العربية الأوراسية
عمار جلو – كاتب وباحث
جدة 24 ، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة السعودية، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار العالمية و المحلية، الاقتصاد، تكنولوجيا ، فن، أخبار الرياضة، منوعات و سياحة.